محمد منفلوطي_ هبة بريس
منذ أن تخلى المغرب عن سياسة المقعد الفارغ واستئناف عضويته في الاتحاد الافريقي بهدف الدفاع عن مصالحه الإستراتيجية من داخل هذا التجمع القاري، منذ ذلك الحين عمل على توطيد وتوسيع عمقه الإفريقي وتنويع شركائه في القارة الإفريقية من خلال نهج سياسية متعددة الأبعاد، تهدف إلى جعل المغرب يلعب دوراً ريادياً في القارة الإفريقية على المستويين المتوسط والبعيد.
إن قضية الصحراء المغربية اليوم، قد حُسمت، وقد انتقل التعامل معها من رد الفعل إلى أخذ المبادرة، ومن مرحلة التدبير إلى مرحلة التغيير مع الحسم والاستباقية، ذلك ما أكد عليه الملك محمد السادس حفظه الله في الخطاب الملكي لافتتاح الدورة الخريفية للبرلمان.
موقف حازم ينضاف إلى التطورات المتلاحقة والانتصارات الدبلوماسية والاختراقات المهمة في ملف قضية الصحراء المغربية خلال السنوات الماضية؛ حيث اتخذ الملك موقفًا حاسمًا طالب فيه شركاء المغرب التقليديين والجدد بموقف واضح من سيادة المغرب على صحرائه، مؤكدًا أنه على أساس هذه المواقف ستدير الرباط علاقاتها الخارجية، ففي خطاب الذكرى التاسعة والستين لثورة الملك والشعب، قال الملك محمد السادس إن "ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وإنها المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات” مطالبًا الدول “بأن توضح مواقفها، بشكل لا يقبل التأويل".
إن المملكة المغربية، ومنذ البداية، تبنت نهج الانفتاح الاقتصادي مع الدول الإفريقية وسياسة “اليد الممدودة”؛ بغية تعزيز التعاون في ظل شراكة (رابح-رابح)، مع تبنيه لدبلوماسية القنصليات بالصحراء المغربية بخلفيات وأبعاد قانونية وسياسية واقتصادية وأمنية جيو استراتيجية.
فبعد رمزية الاعترافات السياسية بالسيادة المغربية على الصحراء، كان البعد الاقتصادي محركًا قويًّا أيضًا للسلوك المغربي الخارجي، فالإقليم الصحراوي يطرح فرصًا استثمارية ضخمة وواعدة، وتحديدًا في المجالات الحيوية، مثل الطاقة المتجددة وقطاع المعادن؛ نظرًا لموقعه الاستراتيجي المميز وتمتّعه بالموارد الطبيعية، ومن هنا جاءت تحركات المملكة على الصعيدين الإقليمي والدولي لتعزز من مقاربتها الرامية لإثبات سيادتها وتعزيز مصالحها الاقتصادية الوطنية.
وقد أثبتت هذه المقاربة فاعليتها؛ حيث ساهمت في تحييد بعض مواقف الدول الأوروبية والأفريقية من قضية الصحراء، والتركيز على مشاريعها التنموية بالشراكة مع المغرب في ظل تزايد مخاطر التنظيمات الإرهابية، وهو ما يفسر بالاهتمام المغربي الملحوظ بمنطقة الساحل والصحراء لتعزيز دوره في القارة الأفريقية بصفة عامة، ومنطقة الساحل والصحراء بصفة خاصة انسجاما مع القرار الملكي لتسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، مؤكدا حينها على أن تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية بمنطقة الساحل والصحراء، ليس بتبني المقاربات الأمنية والعسكرية وحدها فقط، بقدر ما يقوم على التعاون والتنمية المُشتركة، وكان في ذلك مؤشر مهم على الاهتمام المغربي بتعزيز العلاقات مع دول الساحل والصحراء، ومن ثم توجيه الحكومة المغربية للبدء في تنفيذ ذلك الأمر، مع عرض هذه المقترحات على قادة الدول الخمس (المغرب، تشاد، مالي، النيجر وبوركينا فاسو).
إن المؤسسة الملكية بقيادة الملك محمد السادس حفظه الله، قد تبنت سياسة التدبير الإنساني للحدود في ظل التحولات الكبرى التي تعرفها ظاهرة الهجرة على المستويين الإقليمي والدولي، تميزت ببعدها الإنساني وتحترم كرامة وحقوق المهاجرين، جعلت المغرب يحظى بإشادة قوية على المستوى الدولي، بفضلها تحول إلى أرض استقبال وكرامة حيث يتمتع اللاجئون والمهاجرون بالحماية الكاملة والولوج، على قدم المساواة إلى جانب المواطنين المغاربة، إلى التعليم والسكن والصحة والتكوين المهني والتشغيل.
هذه الانتصارات المتتالية للدبلوماسية المغربية، أربكت حسابات الخصوم، بل وأنها عرت عوراتهم وعورات من يمسك بلجامهم، وقد كان للموقف المغربي الحاسم للسيطرة على معبر الكركرات الرابط بين الحدود المغربية والموريتانية بعد المحاولات الفاشلة لجبهة البوليساريو عرقلته وقطع الطريق أمام الحركة الاقتصادية والانسانية، مما أفقدها الوزن الدبلوماسي وأضعف هامش مناورتها، ليأتي الرد سريعا من قبل دول افريقية لتعلن انسحاب اعترافاتها بهذا الكيان الوهمي.
المغرب، لم يلتف إلى الوراء ولم تحركه رياح الاستفزازات من هنا وهناك، بل ظل ثابتا على مواقفه العادلة والحاسمة الداعمة لخيار الحكم الذاتي كحل لا بديل عنه لهذا الصراع المفتعل، وسرعان ما أعلنت حينها إدارة الأمريكية السابقة لدونالد ترامب بالسيادة المغربية على أقاليمه الصحراوية، وتثبيته من قبل الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن، كل ذلك عزز من موقف الرباط؛ نظرًا لثقل واشنطن في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبالتالي زاد من فرص المغرب في تبني الأمم المتحدة مقترح الحكم الذاتي الذي تقدم به، والاعتراض على أي مبادرات أخرى تطرحها البوليساريو، كما أن اختيار مدينة الداخلة في الإقليم الصحراوي كموقع للقنصلية الأمريكية له دلالات عدة؛ حيث تُعدّ الداخلة من ضمن خطط المشاريع التنموية الضخمة للمغرب، وبعض الدول في المنطقة التي تسعى للاستثمار فيها، وهو ما يعزز طرح المغرب لإيجاد حل سياسي في إطار المبادرة المغربية.
وعلى ضوء هذه المعطيات، يمكن تأكيد حقيقتين أساسيتين، هما:
• فشل مبادرة الاستفتاء الذاتي المفتوح في الصحراء التي طرحتها هيئة الأمم المتحدة عام 1991، فمن البديهي أن الاستفتاء لن يكون إلا تشريعاً لحل سياسي مسبق وليس تقريراً للمصير على غرار استفتاءات سابقة رعتها الأمم المتحدة في مناطق أخرى من العالم.
• أن المغرب يتمتع بأبرز أوراق القوة الرابحة في ملف الصحراء، وقد طرح خيار الحكم الذاتي الموسع حلاً سياسياً قابلاً للتفاوض في حدوده وصيغه الإجرائية، مع اشتراط مبدأ السيادة.
ويرى محللون وأساتذة جامعيون، أن المرحلة الراهنة تتطلب تثمين الخطب الملكية والعمل على تنزيل مضامينها وفق مقاربة تشاركية، وتقوية الجبهة الداخلية، وتثبيت التواجد العسكري بأقاليمنا الصحراوية، مع إعادة النظر في العلاقات مع بعض دول الجوار، والإبقاء على سياسة التنويع من خلال عقد تحالفات مع دول مؤثرة عسكريا واقتصاديا في هذه الدول وفي مقدمتها روسيا والصين ومصر وتركيا ودول الخليج العربية، كما يتطلب الأمر كذلك إعادة رسم الأولويات الجديدة ووضع أجندة لتعزيز التعاون والتقارب مع البلدان المغاربية، ومواجهة التحركات الجزائرية الجديدة.