“حياة أطفالنا أولوية الأولويات”
الكاتب : د. مصطفى تاج
في أقل من شهر تقريبا، شهدت بلادنا عدة حوادث مروعة أثارت صدمات متتالية في المجتمع، راح ضحيتها أطفال في عمر الزهور. انطلقت مع وفاة خمسة أطفال بتمارة -لم يبلغ أكبرهم الثانية عشرة سنة بعد- حرقا واختناقا، بعدما شب حريق مهول في شقتهم السكنية إثر انفجار شاحن كهربائي يستخدم لشحن الهاتف. تلاها اعتقال الطفلة ملاك بالناظور واستقدامها إلى الدار البيضاء رفقة والديها لشبهة تورطها معهم في أعمال إجرامية وما خلفته حيثيات اعتقال الطفلة من نقاش مجتمعي متضارب.
لم تكد تنسى هاتين الواقعتين، حتى اصطدم الرأي العام الوطني بثلاث وقائع مهولة أخرى تصب في نفس الاتجاه، يتعلق الأمر بغرق الطفلة يسرى بعدما جرفتها السيول الناتجة عن التساقطات المطرية عبر بالوعة للصرف الصحي ببركان. وذبح الطفلة هبة من طرف والدتها بفاس، ثم قتل الطفلة جيداء بعد اختطافها والاعتداء عليها جنسيا من طرف عمها بمنطقة سيدي الطيبي نواحي القنيطرة.
لا يمكن أن تمر هذه الحوادث الفظيعة مرور الكرام، بقدر ما يجب الوقوف عليها بكثير من التمعن والتفكير ومقاربتها من جميع النواحي، إذ أنها تطرح تساؤلات عميقة حول مسؤولية حماية الأطفال ف
hibapress.com
الكاتب : د. مصطفى تاج
في أقل من شهر تقريبا، شهدت بلادنا عدة حوادث مروعة أثارت صدمات متتالية في المجتمع، راح ضحيتها أطفال في عمر الزهور. انطلقت مع وفاة خمسة أطفال بتمارة -لم يبلغ أكبرهم الثانية عشرة سنة بعد- حرقا واختناقا، بعدما شب حريق مهول في شقتهم السكنية إثر انفجار شاحن كهربائي يستخدم لشحن الهاتف. تلاها اعتقال الطفلة ملاك بالناظور واستقدامها إلى الدار البيضاء رفقة والديها لشبهة تورطها معهم في أعمال إجرامية وما خلفته حيثيات اعتقال الطفلة من نقاش مجتمعي متضارب.
لم تكد تنسى هاتين الواقعتين، حتى اصطدم الرأي العام الوطني بثلاث وقائع مهولة أخرى تصب في نفس الاتجاه، يتعلق الأمر بغرق الطفلة يسرى بعدما جرفتها السيول الناتجة عن التساقطات المطرية عبر بالوعة للصرف الصحي ببركان. وذبح الطفلة هبة من طرف والدتها بفاس، ثم قتل الطفلة جيداء بعد اختطافها والاعتداء عليها جنسيا من طرف عمها بمنطقة سيدي الطيبي نواحي القنيطرة.
لا يمكن أن تمر هذه الحوادث الفظيعة مرور الكرام، بقدر ما يجب الوقوف عليها بكثير من التمعن والتفكير ومقاربتها من جميع النواحي، إذ أنها تطرح تساؤلات عميقة حول مسؤولية حماية الأطفال في المجتمع، ودور مؤسسات الدولة والمجتمع المدني في التنشئة الاجتماعية السليمة وفي تعزيز الثقافة الوقائية من العنف ومن المخاطر المرتبطة بالبنية التحتية وبالتغيرات البيئية والمناخية، وكيفية تعامل النظام القضائي الوطني مع مثل هذه القضايا، إضافة إلى أهمية تعزيز آليات حماية الأطفال من العنف الأسري والمجتمعي.
فحماية الأطفال من العنف والإساءة والإهمال تعد مسؤولية جماعية تشمل الدولة بجميع مؤسساتها، وتشمل المجتمع بكل مكوناته. ذلك أن الحماية الشاملة للأطفال تعني توفير بيئة آمنة وداعمة لنموهم الجسدي والنفسي والاجتماعي، مع ضمان تمتعهم بحقوقهم الأساسية كما نصت على ذلك الاتفاقيات الدولية، وعلى رأسها اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها بلادنا بعدما أقرتها الأمم المتحدة سنة 1989. فهل يكفي توقيع المغرب على هذه الاتفاقية لضمان توفير الحماية الشاملة للأطفال؟
صحيح أن بلادنا كانت من أولى الدول التي وقعت الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل من طرف الملك الراحل الحسن الثاني شخصيا، كما وقعت كذلك على الإعلان العالمي من أجل الحفاظ على حياة الطفل ورعايته وتنشئته سنة 1992، وأنشأت المرصد الوطني لحقوق الطفل سنة 1995 تحت الرئاسة الفعلية للأميرة للا مريم. وأحدثت برلمان الطفل سنة 1995 كفضاء لتعزيز مشاركة الأطفال وانخراطهم في مناقشة وبلورة التدابير والبرامج التي تهمهم.
كما حرص الملك الحالي محمد السادس بعد اعتلائه العرش على الحضور بشكل شخصي في أشغال الجلسة الافتتاحية للدورة الاستثنائية السابعة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة المخصصة للطفل، في ماي 2022. والتي استلهمت من خلاصاتها وتوصياتها خطة العمل الوطنية للطفولة 2006-2015 تحت شعار "مغرب جدير بأبنائه"، التي تلاها وضع السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة بالمغرب 2015-2025.
هاتان الخطتان سعتا إلى تجويد منظومة التشريعات الوطنية والنهوض بحق الأطفال في مجالات التربية والتعليم والصحة والحماية والمشاركة، ورمتا كذلك ترصيد ما تم تحقيقه من مكتسبات في سياق التزام المغرب بتحقيق أهداف الألفية للتنمية 2000-2015 ذات الصلة بالطفولة، وسعيه لرفع التحديات المرتبطة بأهداف التنمية المستدامة لسنة 2030، وما تقدمه من فرص لإدراج الحقوق الأساسية للطفل في مختلف البرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.
ومن الإيجابي أن فصولا عدة في دستور المملكة الجديد لسنة 2011 نصت على ضرورة تعزيز حماية الطفل وضمان تمتعه بحقوقه الأساسية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الفصل 32 الذي ورد فيه أنه على الدولة السعي لتوفير الحماية القانونية والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية، وكذلك العمل على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها.
كما أصدرت بلادنا تبعا لذلك مجموعة من القوانين ذات الصلة، من قبيل القانون المتعلق بمنع تشغيل الأطفال القاصرين والقانون المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء والفتيات، والذي يشمل أيضا حماية الفتيات من الزواج المبكر والعنف الأسري، والقانون المتعلق بإنشاء مؤسسات الرعاية الاجتماعية، ومراجعة القانون المتعلق بمنح الجنسية المغربية للطفل من أم مغربية وأب أجنبي.
من جهة أخرى، تعتكف بلادنا في الآونة الأخيرة على تعديل العديد من القوانين والتشريعات التي تهدف إلى حماية الطفل، من قبيل مدونة الأسرة التي من المتوقع أن تتضمن أحكاما إضافية لحماية الأطفال في حالات الطلاق والنفقة والحضانة. ومنظومة القانون الجنائي التي تجرم العنف والاعتداءات الجنسية على الأطفال. كما تم إحداث مزيد من مؤسسات الرعاية الاجتماعية مثل دور الأطفال ودور الأيتام ومراكز حماية الطفولة.
وأمام الوقائع التي تفرض نفسها على الساحة العمومية، فإن كل هذه الإنجازات يجب أن تتعرض للمساءلة ولتقييم النتائج، على جميع المستويات، وخصوصا على مستوى الأثر. بحيث يمكن أن نسجل نوعا من التحسن على مستوى مؤشرات التعليم مقارنة مع الماضي إذا ما ربطناها بانخفاض نسبة الأمية بين الأطفال وزيادة الالتحاق بمراكز التعليم الأولي وبالمدارس. إلا أن السلبيات والعثرات لا زالت كثيرة بشكل محرج يتطلب منا دق ناقوس الخطر، حتى ينتبه الجميع لحالة الطفولة المغربية الهشة. فما الحوادث الفظيعة التي افتتحنا بها المقال إلا علامات على حالة مرضية متشابكة يعيشها المجتمع، تفرض علينا العمل بشكل مستعجل ومركز على بحث سبل النهوض بأوضاع الطفولة المغربية وتوفير الحماية الشاملة لها الآن قبل فوات الأوان.
فما معنى أن نسمع في شهر واحد عن احتراق واختناق وغرق وذبح واعتداء جنسي وتشهير واستباحة عرض في حق أطفال في عمر الزهور؟ ألا يعكس هذا نوعا من الإهمال والتهميش في حق أطفال اليوم عماد البلاد وعمودها الفقري المستقبلي؟ ألم نتألم جميعا لما سمعناه وشاهدناه فيما يخص هذه النوازل جميعها، والتي للأسف الشديد جاءت متعاقبة وشملت جهات عدة وراح ضحيتها أطفال أغلبهم فتيات بأسباب وعوامل متنوعة؟
أظن أنه لا مجال بعد الآن لترك الأمور على عواهنها في هذا البلد الذي يفتخر بتاريخه الضارب في القدم وبقيمه وتقاليده الراقية في العناية بالأسرة وبالطفولة، مما يستدعي اتخاذ مجموعة من الخطوات الاستعجالية، تنطلق بفتح نقاش مجتمعي حول واقع الطفولة المغربية الآن ونوافذ المستقبل التي نريد توفيرها لهم. وإخراج المجلس الاستشاري للطفولة والأسرة إلى حيز الوجود، هاته المؤسسة الدستورية التي عطل مسار إحداثها لأسباب مجهولة، وهي المفروض فيها تسليط الضوء على واقع الطفولة والتركيز على قضاياها والاهتمام بها كشريحة لها أهمية كبرى في مغرب اليوم والغد.
إن ما نراه ونسمع عنه من أحداث مروعة في حق الأطفال، ومن مشاكل أسرية ازدادت حدتها، ومن ارتفاع متسارع في نسب الطلاق والتفكك الأسري الذي يروح ضحيته الأطفال بالدرجة الأولى، ليدعونا جميعا إلى التفكير والاجتهاد في إبداع وسائل حديثة لضمان حفاظ المجتمع المغربي على قيمه الراسخة وعلى تماسك الأسر داخله، لأن تماسك الأسرة من تماسك المجتمع والدولة.
لذلك، فيجب على القائمين على تعديل مدونة الأسرة ومنظومة القانون الجنائي أن يحرصوا على وضع الطفولة المغربية في قلب تفكيرهم وفي عمق تعديلاتهم. فلا خير في قوانين وسياسات لا تراعي للأطفال بالدرجة الأولى، ولا خير فينا إن لم نضع نصب أعيننا رجالات الغد، فأحسن استثمار يمكن أن تنخرط فيه بلادنا التي لا تتوفر على غاز ولا على بترول هو الاستثمار في بناء الإنسان، وهذا يمر وجوبا بالاهتمام بالطفولة وحمايتها حماية شاملة، ووضعها في قلب جميع السياسات العمومية، وإيلائها الأهمية التي تستحق. ولنا في اليابان نموذج جيد جدا للاقتداء.
إننا بحاجة إلى القطع مع مثل هاته الظواهر والوقائع التي يروح ضحيتها الأطفال، مما يستدعي الاستثمار في القيم الإنسانية والإسلامية والوطنية التي لطالما تميزت بها بلادنا المتسامحة. وهذا ما يفرض إعادة التفكير في نظامنا التربوي والتعليمي، إذ يطرح سؤال الأثار التي يخلفها تنزيل برامج الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين 2015-2030 على أرض الواقع، أمام تفشي ظواهر التنمر والعنف المدرسي بكثرة داخل المدارس وفي محيطها وفي الأحياء، خصوصا الشعبية منها. واستمرار الهدر والانقطاع المدرسيين، خصوصا في صنف الفتيات، وفي شريحة أطفال العالم القروي والمناطق الجبلية بنسبة أكبر.
كما أن المناسبة شرط، وبلادنا ترفع شعار الحماية الاجتماعية الشاملة، لكي تشكل لحظة التقييم والتجويد مناسبة لدراسة انعكاس هذه السياسة على الطفولة، وفرصة للتركيز على تعميمها لتشمل جميع أطفال المغرب مهما كانت الفئات الاجتماعية التي ينتمي لها أباءهم. حيث سيكون من الأنجع استهداف الأطفال أيضا في ورش إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية، ودمج حقوق الطفل في مختلف السياسات العمومية ورصد الميزانيات الكافية لها. ففي الأول والأخير، لا يهم العالم الذي سنتركه لأطفالنا، بقدر ما يهم الأطفال الذين سنتركهم لهذا العالم.