سلطة الفايسبوك
الكاتب : د. مصطفى تاج
في عالم تتسارع فيه وتيرة الاتصال الرقمي، لم يعد الفايسبوك مجرد شبكة اجتماعية تواصلية وفقط، بل أصبح مؤسسة قائمة بذاتها تؤدي أدوارا تتجاوز بكثير الغاية الأصلية من إنشائها. ففي الدول المتقدمة، حيث يفترض أن مؤسسات الرأي العام والإعلام والرقابة قوية ومتقدمة، دخل الفايسبوك على خط التأثير السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشكل عميق، بل وأحيانا بشكل خطير. بحيث تحول إلى قوة ناعمة تملك من الأدوات ما يمكنها من توجيه الرأي العام، والتأثير على الانتخابات، وإعادة تشكيل الإدراك الجماعي بطريقة لم تكن متوقعة قبل عقدين من الزمن فقط.
أما في المغرب، فقد تحول الفايسبوك إلى فاعل رئيس في الحياة العامة بالمغرب، وبرز كمنصة قادرة على التأثير، بل وتوجيه الرأي العام، في ظل تقهقر الوسائط السياسية والاجتماعية التقليدية وتراجع أدوار الإعلام بنوعيه، الرسمي والمستقل، وتنامي الفضاءات الرقمية غير المؤطرة. مما يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة هذه السلطة الجديدة التي بات يمتلكها الفايسبوك، وحدود تأثيرها، وإشكالاتها الأخلاقية والسياسية.
ذلك أنه في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها المجال الرقمي، أصبح
hibapress.com
الكاتب : د. مصطفى تاج
في عالم تتسارع فيه وتيرة الاتصال الرقمي، لم يعد الفايسبوك مجرد شبكة اجتماعية تواصلية وفقط، بل أصبح مؤسسة قائمة بذاتها تؤدي أدوارا تتجاوز بكثير الغاية الأصلية من إنشائها. ففي الدول المتقدمة، حيث يفترض أن مؤسسات الرأي العام والإعلام والرقابة قوية ومتقدمة، دخل الفايسبوك على خط التأثير السياسي والاقتصادي والاجتماعي بشكل عميق، بل وأحيانا بشكل خطير. بحيث تحول إلى قوة ناعمة تملك من الأدوات ما يمكنها من توجيه الرأي العام، والتأثير على الانتخابات، وإعادة تشكيل الإدراك الجماعي بطريقة لم تكن متوقعة قبل عقدين من الزمن فقط.
أما في المغرب، فقد تحول الفايسبوك إلى فاعل رئيس في الحياة العامة بالمغرب، وبرز كمنصة قادرة على التأثير، بل وتوجيه الرأي العام، في ظل تقهقر الوسائط السياسية والاجتماعية التقليدية وتراجع أدوار الإعلام بنوعيه، الرسمي والمستقل، وتنامي الفضاءات الرقمية غير المؤطرة. مما يثير تساؤلات عميقة حول طبيعة هذه السلطة الجديدة التي بات يمتلكها الفايسبوك، وحدود تأثيرها، وإشكالاتها الأخلاقية والسياسية.
ذلك أنه في ظل التحولات المتسارعة التي يعرفها المجال الرقمي، أصبح الفايسبوك في المغرب أكثر من مجرد منصة تواصل اجتماعي، بل تحول إلى فضاء عام رقمي يصاغ فيه جزء كبير من النقاشات السياسية، وتتشكل فيه القناعات والمواقف. وفي قلب هذا التحول برزت فئة جديدة من الفاعلين، يطلق عليهم "مؤثرو الفايسبوك"، والذين باتوا يلعبون أدوارا بارزة في التأثير على الرأي العام، وبناء التوجهات السياسية لشرائح واسعة من المواطنين وتوجيهها، خاصة في ظل تراجع منسوب الثقة في النخب التقليدية والمؤسسات الوسيطة.
ولأن الطبيعة تأبى الفراغ كما قال أرسطو، فقد تناسلت علينا جوقة من الناس، من مختلف التخصصات والمشارب والخلفيات، لا ينتمون بالضرورة إلى مجالات السياسة أو الإعلام أو الفكر. بعضهم انطلق من محتوى ترفيهي أو اجتماعي، على الفايسبوك أو على اليوتيوب أو على منصة أخرى، ثم راكم جمهورا كبيرا مكنه من التحول إلى مؤثر سياسي، بشكل مباشر أو ضمني. آخرون يقدمون أنفسهم كصحفيين رقميين، أو نشطاء فايسبوكيين، دون أن تكون لدى أغلبهم خلفيات مهنية واضحة أو التزامات أخلاقية تضبط أداءهم، أو حتى مستوايات دراسية جامعية تسمح لهم بالخوض في أمور العامة بموضوعية وتجرد.
وهكذا، تحول الفايسبوك، بحكم خوارزمياته وطبيعته التفاعلية، من مجرد منصة لنشر الأخبار وتبادل الآراء، إلى وسيلة لصناعة النقاش العمومي. ذلك أن ملايين المغاربة يتابعون أحداث الساعة من خلال صفحات معينة، يتفاعلون مع التدوينات، يؤثرون ويتأثرون ويصيغون مواقفهم في خضم النقاشات الدائرة في التعليقات. ومع تراجع مصداقية الإعلام الرسمي والتقليدي لدى فئات واسعة، أصبح الفايسبوك مصدرا أساسا للمعلومة، سواء كانت دقيقة أو مضللة. هنا انبثقت سلطة جديدة، هي سلطة المؤثرين الفايسبوكيين.
ذلك أن هذه الفئة أصبحت تمارس سلطة فعلية في الفضاء الرقمي كما العام، تتجاوز في بعض الأحيان سلطة الأحزاب التقليدية والنقابات وبقية الوسائط الأخرى، بل وحتى المؤسسات الدستورية، من حيث التأثير في القضايا المطروحة ومآلاتها. يتنافسون في تحليل الظواهر المجتمعية وفتح الملفات السياسية الشائكة، يعارضون من يريدون وينتصرون لمن يريدون. إلى درجة تحول فيها الفايسبوك إلى مهرجان لأنواع من المعلومات المتنوعة والمتباينة، وسوق كبير للهرج والمرج والبيع والشراء في المواقف أيضا.
فأن تقضي ساعة في تصفح بعض الصفحات المعروفة، ستجد نفسك مشحونا بعدد كبير من المعلومات التي تدفعك بشكل غير مباشر إلى تبني موقف معين من قضية ما أو مسؤول ما. حيث ينشط بعض المؤثرين في معارضة السياسات الحكومية وتسليط الضوء على عيوبها، وعثرات بعض الوزراء والمسؤولين، فيما ينشط آخرون في تبيان الإنجازات التي تقوم بها الحكومة، أو حزب بعينه من داخلها، أو بعض الوزراء خاصة.
مما يعني أنه ورغم ما يوفره الفايسبوك من إمكانيات لحرية التعبير والانفتاح على قضايا كانت تعد من الطابوهات، فإن هذه الحرية نفسها أصبحت أداة توجيه وتحريف في كثير من الحالات. فبعض الفاعلين الرقميين يوظفون المنصة لخدمة أجندات سياسية أو أيديولوجية، عبر التلاعب بالمعلومة أو عبر صناعة ما يسمى ب "الترند" بشكل مصطنع. هنا، يتحول الفايسبوك من فضاء للتعبير إلى آلة توجيه للرأي العام، وهو ما يطرح سؤال الرقابة والمساءلة الأخلاقية. خصوصا وأن بعضا منهم تراهم يتحولون في التموقف من شخص ما أو حزب ما حسب تموقعه السياسي، فيطبلون لوزير ما مادام يتحمل مسؤولية الوزارة، ويثنون على حزبه ما دام يتحمل مسؤولية في الحكومة، فيما يهاجمونه بعدما يتخذ موقع المعارضة، وهكذا دواليك. التموقف حسب التموقع، والشكر والثناء بالمقابل الذي لا تستطيع العامة إدراكه.
نعم، لقد أضحى مؤثرو الفايسبوك في المغرب -وما أكثرهم- مكونا لا يستهان به من المشهد السياسي غير الرسمي. فهم يصوغون الرأي ويبنون الموقف، ويعبئون الناس، ويؤثرون في اختياراتهم، أحيانا أكثر من السياسيين المنتخبين أنفسهم. وبينما يشكل هذا الواقع تحديا حقيقيا للمؤسسات التقليدية، فهو أيضا دعوة إلى مراجعة السياسات التواصلية، والاعتراف بأن الفضاء الرقمي بات ساحة سياسية بامتياز، لا يمكن تجاهلها أو اختزالها في خطاب المراقبة والمنع. مما يستدعي من مؤسسات الدولة المعنية الحرص على إعادة تنظيم المشهد الرقمي في أفق تعزيز المسؤولية، والصدق، والمهنية.
خصوصا إذا استحضرنا التحولات التي عرفتها منظومة الإعلام بشكل عام، التي لم تعد تمارس تأثيرها من خلال المحتوى واللغة، بل صارت قوتها الحقيقية في يد الخوارزميات.
فالخوارزميات التي يعتمدها الفايسبوك لا تنقل الأخبار فقط، بل تختار ما يجب أن يشاهد، ومن قبل من، وفي أي توقيت، بناء على حسابات معقدة تتعلق بالسلوك والتفضيلات والتوجهات.
هذه الآلية غير المحايدة تجعل الفايسبوك شريكا في صناعة الرأي العام، وليس مجرد ناقل له. هي تختار دون أن تخضع للمساءلة، وتبرز أصواتا وتحجب أخرى، وكل ذلك تحت غطاء "الاختيار الشخصي" للمستخدم، الذي هو في الواقع نتاج توجيه غير مرئي.
ونستحضر هنا فضيحة "كامبريدج أناليتيكا" لسنة 2018 والتي كانت لحظة مفصلية في إدراك الغرب لخطورة هذا التداخل بين التكنولوجيا والسياسة. فقد كشفت كيف استخدمت بيانات ملايين المستخدمين على الفايسبوك دون علمهم لتوجيه الحملات الانتخابية بشكل شخصي، بما يناسب مخاوفهم ومشاعرهم وتفضيلاتهم السياسية، في خرق واضح لأخلاقيات العمل السياسي.
كما لعب الفايسبوك دورا كبيرا في الانتخابات الأمريكية لسنوات 2016 و2020 و2024، سواء من خلال الإعلانات السياسية الموجهة أو من خلال التضليل والمعلومات الكاذبة التي انتشرت على نطاق واسع، بل ومهدت لاقتحام الكونغرس في يناير 2021 بعد انتشار مزاعم التزوير.
مؤخرا، حرص وزير العدل شخصيا على محاولة تلجيم بعض النشطاء الفايسبوكيين، من خلال رفع دعاوى قضائية ضدهم، كما دفع بتعديل منظومة القانون الجنائي حتى يمنع الجمعيات من رفع شكايات ضد المسؤولين العموميين، لما اعتبره نوعا من الاستفزاز والابتزاز في حقهم، مستدلا بذلك برئيس لجمعية معينة تنشط في محاربة الفساد لم يكن يملك شيئا فأصبح بممارساته الابتزازية في حق المنتخبين يملك سيارة وفيلا.
ورغم النقاش الدائر حول سلبية الخطوات التي أقدم عليها هذا الوزير من إيجابيتها، فإن سؤال التنظيم والعقلنة يظل على المحك، ذلك أن تدابير المنع والمحاكمات لن تساعد على تنظيم عالم الفايسبوك، نظرا للطبيعة المرنة والمتغيرة للفضاء الرقمي برمته، وتعدد منافذه البديلة، ونظرا لأن المتابعات القضائية تغذي الإحساس بالمظلومية وتدفع للتضامن مع المتابعين "الضحايا" من طرف الجمهور الواسع، وتزيد من شعبيتهم أكثر مما تلجمهم. وأمامنا نماذج حية في هذا الباب. كما أن التاريخ الحديث يسجل بمداد لا يمحى بأن الفايسبوك كان البوابة التي عبرها انطلقت حركة 20 فبراير، ومن بعدها حراك كل من الريف وجرادة وحملة المقاطعة... إلى غير ذلك من الديناميات المحلية والوطنية.
إن الخطوات الضرورية اليوم في نظري، في ظل هذا التأثير المتنامي للفايسبوك وبقية الوسائط الاجتماعية الأخرى، هو أن يتم الاتفاق على إطار قانوني واضح أو ميثاق أخلاقي جامع، وقبل ذلك الاشتغال على تعزيز الوعي الرقمي لدى المواطنين المغاربة. فالمشكل لا يكمن في الفايسبوك في حد ذاته، بل في كيفية تعاطينا معه كمصدر للمعلومة وكمجال للتأثير.
فالمطلوب اليوم ليس مصادرة الحرية أو تقنين المحتوى أو فرض الرقابة الصارمة، أو التلويح بالمنع أو المحاكمات، بل الاستثمار في الإنسان المغربي، وذلك عبر بناء وعي رقمي جماعي، ومن خلاله بناء مواطن رقمي قادر على التمييز بين الحقيقة والتضليل، وبين التعبير الحر والدعاية المقنعة، وبين المحتويات الجادة والهادفة وبين المحتويات التافهة والمهيجة، وبين المنشورات ذات الفائدة وتلك التي تتلاعب بالمتابعين وتدفعهم للاصطفاف غير الواعي.
والمدخل الأساس هنا في نظري هو السعي نحو بناء ديمقراطية رقمية مسؤولة، وذلك عبر إدماج التربية الرقمية والتربية على الأخلاق في نظامنا التعليمي، وتمكين مواطني اليوم والغد من أدوات النقد والتفكير المستقل، حتى يكتسبوا مناعة ضد التأثر السلبي أو التوجيه الخفي للمحتوى الرقمي.
ومن جهة أخرى، لا بد أن تشتغل الدولة على تطوير إعلام مستقل ومهني قادر على استعادة الثقة المفقودة، ومواجهة سيل الأخبار الزائفة بمنطق التحقيق والمصداقية. ويفترض كذلك أن تلعب الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني دورا أكبر في التثقيف الإعلامي، حتى لا يبقى المواطن أسيرا لما تختاره له خوارزميات الفايسبوك.
فالحاجة إلى ثقافة رقمية مواطنة في المغرب لم تعد ترفا فكريا، بل أصبحت ضرورة مجتمعية وأمنية وتنموية. فبدون هذه الثقافة، يظل الفضاء الرقمي مجالا للفوضى، ويكرس الانقسام والتضليل بدل أن يكون أداة للارتقاء بالوعي الجماعي. لهذا فإن أولى الأولويات اليوم هو التفكير بصوت جماعي، وفي إطار الخصوصية المغربية ودستور البلاد وقوانينها وتقاليدها، في بناء مشروع وطني يربط التكنولوجيا بالقيم، ويؤسس لمواطن رقمي حر، مسؤول، ومشارك بوعي في بناء مستقبل بلاده.