""لم تكن مجَرَّد عقوبة بل رحلة نحو إدراكٍ جديد""
السجن المحلي تولال 2، شهرٌ قبل الفراق الأخير للزنزانة …!
ثلاث سنوات مضت، وأنا صديقٌ ورفيقٌ للفلاسفة والفقهاء، أعيش بين عوالمهم، وأتجول بين أفكارهم العميقة، كانت الكتب ملاذي، وكانت الكتابة نافذتي على العالم الخارجي.، وسط هذا المكان الضيق، كانت الكلمات هي المساحة التي تتيح لي التحليق بعيدًا، تتجاوز الزمان والمكان، وتفتح لي أبواب المعرفة التي لا تُحصى.
أشكر كل من ساعدني في ملء وقت فراغي بالقراءة والكتابة، أولئك الذين أمدوني بالعزيمة والصبر في كل يوم مرّ، شكراً لموظفي السجن الذين أظهروا لي وجه الإنسانية في أوقاتٍ كان اليأس يقترب، كلٌّ باسمه وصفته ، وشكراً لأصدقائي المعتقلين، رفاق الدرب والزنزانة، الذين شاركوني الحلم والصبر، أتمنى لهم الفرج القريب، ولنا جميعاً أياماً تحمل الأمل والحرية.
الثلاث سنوات كانت ثقيلة، لكنني أخرج منها بمعرفة أعمق، بفهم أوسع للحياة، وبامتنان لكل من كان جزءاً من رحلتي، في قلب هاته الزنزانة الصامتة، حيث الجدران شاهدة على كل لحظة قاسية عشتها، نشأت بيني وبينها علاقة وجدانية فريدة، علاقة لم أكن لأتوقعها يومًا، لقد كانت زنزانتي أكثر من مجرد أربعة جدران تحاصرني؛ كانت ملاذًا لروحي وهروبًا من ضجيج العالم. هنا، وسط الكتب والمجلدات والأوراق، تشكلت بيني وبين هذه الزاوية صداقة من نوع خاص، صداقة الحروف والكلمات، صداقة الأفكار التي نبتت بين السطور وأزهرت في ذهني رغم قيود المكان.
كل كتاب التهمته عيناي كان نافذة أطل بها على عوالم أخرى، وكأنني أسافر بلا نهاية بين عصور وأماكن لم تطأها قدماي قط، كانت الأوراق بيضاء في البداية، لكنني ملأتها بحروفي حتى باتت شاهدة على تحولاتي الداخلية، على نضجي وتأملي، على ضحكاتي الخفية وأحزاني المكبوتة، يسعدني هذا الإلهام ، وحي القلب ، مُساعفة الكلمات والتعبير عمَّا يختلج الكلِّيات .
لقد كانت الزنزانة تواسي وحدتي، تمنحني الوقت للتفكير، للتأمل في ما كان وفي ما سيكون. الكتب، تلكم الرفيقة الوفية، كانت تعوضني عن صخب الحياة، تمنحني القدرة على التحليق في عالم أوسع بكثير من المساحة التي أعيش فيها، هنا اكتشفت أن للحرية أوجهًا مختلفة، وأنها قد توجد في الفكر والكلمة حتى وإن غابت عن الجسد.
ومع اقتراب النهاية، وأنا على بعد شهر واحد من العودة إلى أهلي وأحبابي، أشعر بمزيج من الفرح والحزن. فرحة اللقاء الذي انتظرته طويلاً، وحزن الفراق عن هذه الزاوية التي احتوتني واحتوت أسراري، هنا في هذه الزنزانة، تشكلت علاقة وجدانية مع الكتب، المجلدات، والأوراق، وكأنها أصبحت جزءاً من ذاتي.
هل يمكنني أن أودع هذه الزنزانة دون أن أشعر بالامتنان؟ لقد منحتني شيئًا لا يُقدر بثمن: هدوء العزلة وتفكر النفس. ومع أن الرحيل قد اقترب، أعلم أن هذه العلاقة لن تنتهي؛ ستظل تسكنني ذكراها كلما قلبت صفحة من كتاب أو خططت سطرًا على ورقة بيضاء.
لقد آن الرحيل، لكنني أحمل معي ما هو أغلى من الحريّة الجسدية: حرية الفكر التي وُلدت هنا، وسط هذه الجدران، وبين دفتي كتاب، تغيرت أفكاري ومعتقداتي بشكل عميق وجذري، كنت أعتقد أن العالم خارج هذه الجدران هو ما يُشكلني، لكنني أدركت أن العزلة كانت رحلة داخلية بحتة، أعادت تشكيل نظرتي إلى الحياة وإلى نفسي. كنت في البداية أقاوم الوحدة، لكن بمرور الوقت أصبحت الزنزانة مرآة لنفسي، تعكس لي ما لم أكن أراه من قبل. الأفكار التي كنت أعتنقها تغيرت، والمعتقدات التي كنت أتمسك بها تلاشت أو تحولت، وأصبحت أرى العالم بمنظور مختلف، أعمق وأكثر هدوءاً.
الآن، وأنا على وشك العودة إلى العالم، أجد نفسي غريباً عن الشخص الذي كنت عليه قبل هذه التجربة، التساؤلات تراودني: كيف سأستقبل هذا العالم؟ وكيف سيستقبلني هو؟ أعلم أنني لم أعد كما كنت، وربما لا أعرف بعد تماماً من أنا الآن. لكنني على يقين بأن هذه التجربة لم تكن مجرد عقوبة، بل رحلة نحو إدراك جديد لذاتي ولما حولي.