نزيف الأطباء وهروب الكفاءات.. هل ينهار قطاع الصحة العمومي ؟

بقلم :عبد الحكيم العياط باحث جامعي في العلوم السياسية متصرف بوزارة الصحة والحماية الاجتماعية يعيش قطاع الصحة في المغرب تحولات كبرى ضمن ورش إصلاح المنظومة الصحية الوطنية، لكن أزمة تدبير الموارد البشرية لا تزال تشكل التحدي الأبرز، ما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الإصلاحات الحالية على تحقيق العدالة الصحية وضمان خدمات ذات جودة للمواطنين. فبين طموحات الحكومة لإرساء نظام صحي أكثر نجاعة، وواقع المستشفيات والمراكز الصحية التي تعاني من خصاص حاد في الأطر الطبية والتمريضية، يبقى الإصلاح عرضة لعدة معيقات تتطلب استجابة عاجلة وواقعية. تشير الأرقام الرسمية إلى أن المغرب يتوفر على حوالي 14 ألف طبيب في القطاع العام حسب آخر إحصائية لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية سنة 2023، في حين يحتاج وفقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية إلى أكثر من 60 ألف طبيب لتغطية احتياجات السكان. أما بالنسبة للأطر التمريضية والتقنية، فإن العجز يتجاوز 65 ألف ممرض وتقني صحي، وهو ما يفاقم الضغوط على العاملين في القطاع، ويؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات الصحية. وفي بعض المناطق القروية، يضطر المواطنون إلى التنقل لمسافات طويل

نزيف الأطباء وهروب الكفاءات.. هل ينهار قطاع الصحة العمومي ؟
   hibapress.com
بقلم :عبد الحكيم العياط باحث جامعي في العلوم السياسية متصرف بوزارة الصحة والحماية الاجتماعية يعيش قطاع الصحة في المغرب تحولات كبرى ضمن ورش إصلاح المنظومة الصحية الوطنية، لكن أزمة تدبير الموارد البشرية لا تزال تشكل التحدي الأبرز، ما يثير تساؤلات جوهرية حول مدى قدرة الإصلاحات الحالية على تحقيق العدالة الصحية وضمان خدمات ذات جودة للمواطنين. فبين طموحات الحكومة لإرساء نظام صحي أكثر نجاعة، وواقع المستشفيات والمراكز الصحية التي تعاني من خصاص حاد في الأطر الطبية والتمريضية، يبقى الإصلاح عرضة لعدة معيقات تتطلب استجابة عاجلة وواقعية. تشير الأرقام الرسمية إلى أن المغرب يتوفر على حوالي 14 ألف طبيب في القطاع العام حسب آخر إحصائية لوزارة الصحة والحماية الاجتماعية سنة 2023، في حين يحتاج وفقاً لمعايير منظمة الصحة العالمية إلى أكثر من 60 ألف طبيب لتغطية احتياجات السكان. أما بالنسبة للأطر التمريضية والتقنية، فإن العجز يتجاوز 65 ألف ممرض وتقني صحي، وهو ما يفاقم الضغوط على العاملين في القطاع، ويؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات الصحية. وفي بعض المناطق القروية، يضطر المواطنون إلى التنقل لمسافات طويلة تصل إلى 100 كيلومتر للحصول على أبسط الخدمات الطبية، بسبب غياب الأطر الصحية أو عدم توفر التخصصات المطلوبة. تواجه المنظومة الصحية أيضاً اختلالات كبيرة في التوزيع الجغرافي للأطر الصحية، حيث تتركز نسبة 60% من الأطباء في محور الدار البيضاء-الرباط، بينما تعاني مناطق مثل درعة-تافيلالت والجهة الشرقية من عجز يصل إلى 70% في بعض التخصصات الطبية. كما أن بعض الأقاليم لا تتوفر إلا على طبيب لكل 10,000 نسمة، وهو رقم بعيد عن المعدلات المقبولة لضمان خدمات صحية متكافئة. إضافة إلى الخصاص الحاد، يعاني القطاع من ظاهرة هجرة الأطباء والممرضين، حيث تشير المعطيات إلى أن أكثر من 700 طبيب مغربي غادروا البلاد خلال سنة 2022 للعمل في الخارج ، وهو رقم مرشح للارتفاع في ظل استمرار غياب تحفيزات مالية وإدارية جاذبة. وتفضل العديد من الكفاءات الصحية العمل في الخارج بسبب ارتفاع الرواتب وتحسين ظروف العمل مقارنة بالمغرب، حيث يتراوح أجر الطبيب العام في فرنسا بين 4,000 و6,000 يورو شهرياً، بينما لا يتجاوز 12000 درهم في المستشفيات العمومية المغربية. كما أن ظروف العمل داخل المستشفيات العمومية تظل أحد العوامل الطاردة للأطر الصحية، حيث يعاني المهنيون من ساعات عمل طويلة، وغياب التحفيزات، وتزايد الاعتداءات الجسدية واللفظية عليهم من طرف بعض المرتفقين، مما يجعلهم يفكرون في مغادرة القطاع العام أو الهجرة نحو الخارج. وتشير تقارير نقابية إلى أن حوالي 30% من الأطباء الجدد يفكرون في مغادرة البلاد مباشرة بعد انتهاء تكوينهم، بسبب ضعف الرواتب والضغط المهني المرتفع. و لمواجهة هاته الضغوط ،أعلنت الحكومة عن إصلاح المنظومة الصحية سنة 2022، وهو ماكان يفترض أن يشكل قفزة نوعية في تحسين وضعية الأطر الصحية. غير أن المشروع يواجه انتقادات واسعة من طرف النقابات المهنية، التي ترى أن الإصلاح يظل غير كافٍ بسبب عدم وضوح آلياته التحفيزية، وعدم إدماج تحفيزات مالية مشجعة، إضافة إلى غياب ضمانات واضحة لحماية الأطر الصحية من الضغط المهني والاعتداءات ،الشيء الذي أدى الى مفعول عكسي لهذا الإصلاح حيث غادر العديد من مهنيي الصحة القطاع العمومي سنة 2024 ،وعرف نفس العام اضطراب في تقديم الخدمات الصحية لأكثر من ثلاثة أشهر بسبب اضرابات مفتوحة للنقابات الصحية. كما أن هذا النظام لم يضع حلولاً ملموسة لأزمة التوزيع الجغرافي العادل للأطر الصحية، حيث لا تزال بعض المناطق القروية والنائية تعاني من غياب شبه كلي للأطباء المتخصصين. ويرى الفاعلون في القطاع أن نجاح هذا الإصلاح يظل رهيناً بإدخال تحفيزات مالية إضافية، وتحسين ظروف العمل، وتوفير ضمانات مهنية قوية لحماية الأطباء والممرضين من العنف والضغط المهني المفرط. وتؤدي هذه الاختلالات إلى ضعف جودة الخدمات الصحية، حيث يعاني المرضى من طول آجال المواعيد الطبية، ونقص التجهيزات، وغياب بعض التخصصات الطبية في المستشفيات العمومية. وتشير تقارير وزارة الصحة إلى أن متوسط مدة الانتظار لإجراء عملية جراحية غير مستعجلة قد يصل إلى 6 أشهر في بعض المستشفيات الجامعية، بينما يعاني قسم المستعجلات من ضغط هائل بسبب قلة الأطباء والممرضين، مما ينعكس سلباً على سرعة التكفل بالحالات الحرجة. كما أن المستشفيات العمومية تعاني من ضعف الميزانية المخصصة لها، حيث لا تتجاوز ميزانية قطاع الصحة في المغرب 6% من الناتج الداخلي الخام، وهو رقم أقل بكثير من المعدل الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، والمحدد في 10%. ويؤثر هذا النقص في التمويل على قدرة المستشفيات على تحسين ظروف العمل للأطر الصحية، وتجهيز المرافق الطبية بالمعدات اللازمة، مما يزيد من تفاقم أزمة المنظومة الصحية. إن نجاح إصلاح المنظومة الصحية يظل رهيناً بإيجاد حلول مستدامة لأزمة الموارد البشرية، بعيداً عن الحلول الترقيعية أو الإجراءات المؤقتة. فبدون استثمار حقيقي في العنصر البشري، لن تتمكن المستشفيات والمراكز الصحية من تقديم خدمات تستجيب لتطلعات المواطنين، وستظل الفجوة بين انتظارات الإصلاح والواقع الميداني قائمة، مما قد يؤدي إلى مزيد من الاحتقان داخل القطاع، ويُضعف الثقة في النظام الصحي الوطني.